الشعراء ليسو ارهابيين

أكره ''الإرهاب''، لكني أحب ''الشعر''. أرفض ضيق الأفق ومصادرة حق الاختلاف، لكنني لا أقبل تقييد حرية أي إنسان، حتى ولو كان متعصباً، دون محاكمة أو سند قانوني.
أمامي الآن كتاب، أصدرته منظمة العفو الدولية في هذا العام، يتحدث عن معتقل غوانتانامو بكوبا. الكتاب ليس سوى ديوان للشعر، ضم قصائد المعتقلين هناك. ''غوانتانامو'' وصمة عار على صدر الإنسانية. منذ افتتاح ذلك المعسكر اللعين في يناير/ كانون الثاني ,2002 مازال مئات الرجال والأطفال هناك يعانون من معاملة لا إنسانية دون تهمة أو محاكمة. بعد حرب أفغانستان تم إلقاء القبض عليهم، فلم تتم معاملتهم كمجرمين لهم الحق في محاكمة عادلة، ولم يعاملوا كأسرى حرب طبقاً لاتفاقات جنيف.
أكثر من 250 معتقلاً عربياً ومسلماً مازالوا في ''غوانتانامو'' دون سند قانوني. هكذا بدأت ''الحرب على الإرهاب'' التي شنتها الولايات المتحدة ''إرهاباً'' بحق. كانت شعارات الإنسانية والحرية الأميركية مجرد ستار يخفي سجون ''المواقع السوداء'' التي تديرها الولايات المتحدة في بلدان أخرى. حيث يتم التعذيب وإجبار المعتقلين على اعترافات كاذبة. في الوقت نفسه تم إصدار قوانين مكافحة الإرهاب التي تعدت معاقبة الضالعين في أعمال إرهابية إلى تكبيل المعارضين المطالبين بالتغيير السياسي والاجتماعي والمعادين للسياسات الاستعمارية. كيف وصلت قصائد معتقلي ''غوانتانامو'' إلى القراء؟ تلك قصة طريفة لابد من روايتها. رغم القيود الحديدية والإذلال النفسي والبدني والتعذيب اتجه كثير من المعتقلين إلى قرض الشعر كوسيلة وحيدة للمقاومة والحفاظ على اتزانهم العقلي. لم يكن الشعر سوى قارب نجاة قد تشبثوا به في جزيرة نائية تحيطها مياه المحيط والحراس من كل جانب. في البدء لم يسمحوا لهم بأوراق وأقلام، فلم يكن أمام شعراء المعتقل سوى أن يحفظوا ما تجود به قريحتهم عن ظهر قلب. عندما سمحوا لهم بوجبات غداء وعشاء كانوا يأخذون أكواب الفلين ويخطون عليها قصائد قصيرة بواسطة الحفر بالعصا أو الكتابة بمعجون الأسنان. هكذا ظهر اختراع شعري جديد للبشرية، هو ''قصائد الأكواب''!
بعد عام من الاعتقال سمحوا بالأقلام والأوراق، لكن القصائد المكتوبة كانت تحت المراقبة، وكان معظمها يتم مصادرته. هل استخدم السجان ''حرية كتابة القصائد'' كي يصل إلى معرفة ما يدور في عقل المعتقلين؟ مازالت مئات القصائد في حوزة ''البنتاغون''؛ لأنه يعتبرها أسلحة شديدة الدمار، لكن بعض القصائد تسرب بعد موافقة الجيش الأميركي إلى المحامين في زياراتهم إلى المعتقلين. كانت كل القصائد مترجمة إلى الإنجليزية عدا خمس منها، تسنى الحصول على أصولها العربية. قام بترجمة قصائد ''الحرية'' أستاذان جامعيان هما محمد عناني والدكتور محمد هشام بقسمي الأدب الإنجليزي في جامعتي القاهرة وحلوان.
ما أجمل كلمة ''الحرية'' عندما ينطقها لسان مقيد! ها هو المعتقل البريطاني معظم بيج يتأوه: ''الدار القفص هنا.. والقفص من فولاذ.. ولذلك فالواقع وهم والوهم ملاذ''. ويضيف ''علمنا في الماضي فضل الصبر، فالصبر حديد لا يُكسر.. وإذا بالصبر حديد ألهمنا الشعر''[1].
فقد عبدالله بن ثاني فارس العنزي من السعودية ساقيه في عملية قصف أميركية بأفغانستان . وأثناء وجوده في المستشفى تم اعتقاله وإرساله إلى غوانتانامو دون رعاية طبية كافية. يشكو عبدالله الحال إلى والده فيقول: ''يا بوي سجني سجن ظلم وتزوير.. ظلم يبكي شامخات المدينة.. مالي جريمة ولا أرتكب المحاذير.. عكف المخالب بيع بيع السمينة.. قالوا تعذر قلت مالي معاذير.. العذر عند فعل المراجل غبينة''.
شكوى جريحة مؤلمة صيغت في موال موجه إلى الأهل والأب الحبيب. أحد المعتقلين الأفغان، الشيخ عبدالرحيم دوست، يكتب قصيدة من بيتين، من أجمل قصائد الأكواب فيقول: ''ما أنسب القيد الحديد للشاب الباسل.. أما الأساور فهي للعوانس أو للفاتنات في ربيع العمر''. وفي قصيدة كوب أخرى يصدح ''إني أطير عاليا على جناح الفكر.. وهكذا فرغم ذلك القفص.. حريتي تزيد عن سواها''.
مراسل فضائية ''الجزيرة'' المعتقل في غوانتانامو، سامي الحاج، يكتب قصيدة بمناسبة الإضراب عن الطعام يقول فيها: ''يقولون تمثال العدالة عندنا.. وحرية الرأي الذي هو صيب.. فقلنا لهم ليس العدالة في البنا.. أو صورة والظلم للخلق يرعب''. ''عثمان عبدالرحيم'' اليمني يتحدى الموقف فيكتب: ''لا تعتبر موت رجل دليلاً على انهزامه.. فالعار الوحيد هو خيانة المثل العليا.. وأن تحيد عن عقيدتك''. ''عبدالله ماجد النعيمي'' البحريني الذي أطلق سراحه في العام 2005 يرسل رسالة إلى والده فيقول: ''يا والدي! قل لدامع العينين .. لا تنسني مثلما لن أنساك.. فسوف يفهم حالتي.. وعندما تبصر الأشياء المألوفة في دنيانا.. البسط البدوية وحزم الأغصان.. وأسراب الحمام في الجو.. فاذكرني''. توجه الشعراء إلى البحر الذي يحيطهم من كل جانب فخاطبوه أيضاً. وفي قصيدة تذوب عشقاً وقوة. يكتب إبراهيم الربيش السعودي: ''أيها البحر! إنك تعيرنا في أسرنا.. لقد تواطأت مع أعدائنا وها أنت تحرسنا بقسوة.. أم تخبرك الصخور بالجرائم التي ارتكبت وسطها؟ ألم تترجم كوبا المقهورة قصصها لك؟ لقد ظللت بجوارنا ثلاث سنوات فماذا كسبت؟ زوارق من الشِعر في البحر، ولهبا مدفونا في قلب مشتعل''.
عندما يتحول القهر شعراً، وتنصهر الأغلال في قصائد، يكون نداء الحرية صادقاً إلى أبعد حد. فلنتذكر دائماً أن هناك على بعد آلاف الأميال، في جزيرة معزولة في المحيط، يقبع أقارب وأصدقاء لنا في سجن موحش وأقفاص تليق بحيوانات لا ببشر. يقبع هناك خلف القضبان كل هؤلاء دون محاكمة وبلا تهمة مجردين من أي حقوق. كل ذلك وسط أهازيج ''الحرية الأمريكية''، التي يحف بها صمت عربي مهين.
[1] اعتمدنا على كتاب ''قصائد من غوانتانامو'' - دار الفارابي ومنظمة العفو الدولية، بيروت العام .2008

شكرا على مروريا احلى لحن فى الدينااااااا

مشكوره يا زهور ويا الياسر ويا الكاسر على المرور الطيب
وبارك الله فيكم