[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]إن م
ظهر جلال الربوبية في القرآن، يعني خلوه من الطبائع والصفات البشرية كلها، إنك إن تأملت في الآيات التي تقرؤها أو تصغي إليها من القرآن، رأيتها مرآة لجلال الربوبية وصفات الألوهية.
ومهما تأملت، فلن تجد في شيء منها إلا ما يضاد الطبيعة والحاجات البشرية ومظاهر الضعف الإنساني التي يفيض بها كلام الإنسان أيا كان، وأيا كان نوع الحديث الذي يتناوله.
إن من المعلوم أن الكلام مرآة دقيقة لطبيعة المتكلم وصفاته واحتياجاته، وما تتجلى الأغوار النفسية لشخص ما على شيء، كما تتجلى على ما يكتبه أو يقوله.
لذا فإن من العسير أن يقلّد كاتب كاتبا آخر في أسلوبه إذا كتب.. لقد حاول كثيرون أن يقلدوا أسلوب الجاحظ مثلا، فلم يتأت لهم ذلك، لأن الأسلوب ليس طريقة معينة في صوغ العبارة فقط، بل الأسلوب -قبل ذلك- مرآة دقيقة لنفسية صاحبه، فلئن استطاع أحدهم أن يقلّد الآخر في صوغ العبارات، فهيهات أن يستطيع تقليده في خصائصه النفسية وطبائعه البشرية.
فإذا كان هذا واضحا، فأحرى -في باب البداهة والوضوح- أن لا يستطيع الإنسان -أيا كان- أن يتجرد عن بشريته وصفاته الإنسانية، ثم يجعل من نفسه إلهاً يتصف بكل ما لا بدّ أن يتجلى في ذات الله من مظاهر الربوبية المضادة للطبيعة البشرية، ثم ينطق بكلام تبرز فيه هذه الألوهية بكل ما فيها من كبرياء وجلال.
إن هذا مستحيل بلا شك، لأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تتخلّى عن صاحبها لحظة من حياته.
براءة القرآن من المظاهر البشرية
ولكن القرآن مبرء من سائر مظاهر البشرية والضعف الإنساني وحاجاته الفطرية. إنه الكلام العجيب الذي يشعّ بجلال الربوبية ومظاهر الألوهية من خلق وإيجاد وإحياء وإماتة وسيطرة وإحاطة.. وإنه لشعاع بيّن يخترق إلى السامع والقارئ حواجز اللغة وفوارق ما بينها.
إليكم هذه النماذج من الآيات التي تتنـزل من علياء الربوبية، وليسأل كل منا عقله: أفيمكن أن تكون هذه الآيات مما يستطيع أن ينطق به بشر من الناس؟!
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم: 68-72)
{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} (طه: 14)
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (الإسراء: 73-77) {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (الذاريات: 56-57)
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 43-45).
فلنتأمل في هذه الآيات وأمثالها، ولنتبين ما يشعّ فيها من جلال الربوبية والسطوة الإلهية، ثم دعونا نتساءل: أفيمكن أن يكون هذا الكلام مما يمكن لبشر من الناس أن يصطنعه اصطناعا، وأن ينطق به تمثيلا أو أن يتحلّى به تزويرا؟
أَمَا إن الطبع لغلاّب، وليقم أي فرعون من الفراعنة المتألهين أو المتجبرين، ثم ليجرب أن ينطق بمثل هذا الكلام الذي يتنـزل من علياء الربوبية، ويغمر نفس السامع والقارئ بمشاعر الهيمنة والجلال، فإن لسانه سيدور في فمه على غير هدى، مهما حاول، فسيأتي بكلام يكشف بعضه بعضا، فيه محاولة التمثيل، ولكن بشريته ومظاهر ضعفه الإنساني تعرّيه وتكذّبه.
وعندما يهيمن القرآن، ويأخذ بمجامع النفس، ويملأ الفؤاد هيبة وتعظيما له، فإن الذي يبعث ذلك كله في النفس، إنما هو مظهر جلال الربوبية فيه، وهو من أجلى مظاهر إعجازه.
صفحة مشرقة
وإليكم هذه الصورة التي تبرز هذه الحقيقة في هذا الواقع المشاهد الذي سجله التاريخ:
نزل عثمان أرطوغرل جد الخلفاء العثمانيين، ضيفا على قريب له في "بورصة"، ولما حان وقت رقاده، ودخل عثمان الغرفة التي هيئت له لينام فيها، رأى شيئا معلقا على أحد جدرانها، فدنا منه ليتبينّه، وإذا هو مصحف يزيّن الجدار، فاتخذ منه موقف الجندي من قائده، وأثبت كفا على أخرى ملصقتين بصدره، وبقي كذلك واقفا لا يتحرك إلى الفجر.
ذلك هو سلطان جلال الربوبية، تجلّى أثره في شخص عثمان أرطوغرل، وفعل فعله في كيانه. أما ثمرة ذلك على شخصه الإيماني وكيانه الوجداني، فقد برزت في سلالته الطاهرة التي أورثها الله مقاليد الخلافة الإسلامية، وجدد بها عهد الازدهار الإسلامي في بقاع الدنيا.
والحمدلله رب العالمين